فصل: تفسير الآيات (17- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
في تأخير الكأس ترتيب حسن، فكذلك في تقديم الأكواب إذا كان الكوب منه يصب الشراب في الإبريق ومن الإبريق الكأس.
المسألة الثالثة:
{مّن مَّعِينٍ} بيان ما في الكأس أو بيان ما في الأكواب والأباريق، نقول: يحتمل أن يكون الكل من معين والأول أظهر بالوضع، والثاني ليس كذلك، فلما قال: {وَكَأْسٍ} فكأنه قال: ومشروب، وكأن السامع محتاجًا إلى معرفة المشروب، وأما الإبريق فدلالته على المشروب ليس بالوضع، وأما المعنى فلأن كون الكل ملآنًا هو الحق، ولأن الطواف بالفارغ لا يليق فكان الظاهر بيان ما في الكل، ومما يؤيد الأول هو أنه تعالى عند ذكر الأواني ذكر جنسها لا نوع ما فيها فقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} [الإنسان: 15] الآية، وعند ذكر الكأس بين ما فيها فقال: {وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ} فيحتمل أن الطواف بالأباريق، وإن كانت فارغة للزينة والتجمل وفي الآخرة تكون للإكرام والتنعم لا غير.
المسألة الرابعة:
ما معنى المعين؟ قلنا: ذكرنا في سورة الصافات أنه فعيل أو مفعول ومضى فيه خلاف، فإن قلنا: فعيل فهو من معن الماء إذا جرى وإن قلنا: مفعول فهو من عانه إذا شخصه بعينه وميزه، والأول أصح وأظهر لأن المعيون يوهم بأنه معيوب لأن قول القائل: عانني فلان معناه ضرني إذا أصابتني عينه، ولأن الوصف بالمفعول لا فائدة فيه، وأما الجريان في المشروب فهو إن كان في الماء فهو صفة مدح وإن كان في غيره فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا، فيكون كقوله تعالى: {وأنهار مّنْ خَمْرٍ} [محمد: 15].
{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{لاَّ يُصَدَّعُونَ} فيه وجهان أحدهما: لا يصيبهم منها صداع يقال: صدعني فلان أي أورثني الصداع والثاني: لا ينزفون عنها ولا ينفدونها من الصدع، والظاهر أن أصل الصداع منه، وذلك لأن الألم الذي في الرأس يكون في أكثر الأمر بخلط وريح في أغشية الدماغ فيؤلمه فيكون الذي به صداع كأنه يتطرف في غشاء دماغه.
المسألة الثانية:
إن كان المراد نفي الصداع فكيف يحسن عنها مع أن المستعمل في السبب كلمة من، فيقال: مرض من كذا وفي المفارقة يقال: عن، فيقال: برىء عن المرض؟ نقول: الجواب هو أن السبب الذي يثبت أمرًا في شيء كأنه ينفصل عنه شيء ويثبت في مكانه فعله، فهناك أمران ونظران إذا نظرت إلى المحل ورأيت فيه شيئًا تقول: هذا من ماذا، أي ابتداء وجوده من أي شيء فيقع نظرك على السبب فتقول: هذا من هذا أي ابتداء وجوده منه، وإذا نظرت إلى جانب المسبب ترى الأمر الذي صدر عنه كأنه فارقه والتصق بالمحل، ولهذا لا يمكن أن يوجد ذلك مرة أخرى، والسبب كأنه كان فيه وانتقل عنه في أكثر الأمر فههنا يكون الأمران من الأجسام والأمور التي لها قرب وبعد، إذا علم هذا فنقول: المراد هاهنا بيان خمر الآخرة في نفسها وبيان ما عليها، فالنظر وقع عليها لا على الشاربين ولو كان المقصود أنهم لا يصدعون عنها لوصف منهم لما كان مدحًا لها، وأما إذا قال: هي لا تصدع لأمر فيها يكون مدحًا لها فلما وقع النظر عليها قال عنها، وأما إذا كنت تصف رجلًا بكثرة الشرب وقوته عليه، فإنك تقول: في حقه هو لا يصدع من كذا من الخمر، فإذا وصفت الخمر تقول هذه لا يصدع عنها أحد.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: {وَلاَ يُنزِفُونَ} تقدم تفسيره في الصافات والذي يحسن ذكره هنا أن نقول: إن كان معنى {لا يُنزِفُونَ} لا يسكرون، فنقول: إما أن نقول معنى: {لاَّ يُصَدَّعُونَ} أنهم لا يصيبهم الصداع، وإما أنهم لا يفقدون، فإن قلنا: بالقول الأول فالترتيب في غاية الحسن لأنه على طريقة الارتقاء، فإن قوله تعالى: {لاَّ يُصَدَّعُونَ} معناه لا يصيبهم الصداع لكن هذا لا ينفي السكر فقال: بعده ولا يورث السكر، كقول القائل: ليس فيه مفسدة كثيرة، ثم يقول: ولا قليلة، تتميمًا للبيان، ولو عكست الترتيب لا يكون حسنًا، وإن قلنا: {لا يُنزِفُونَ} لا يفقدون فالترتيب أيضًا كذلك لأن قولنا: {لاَّ يُصَدَّعُونَ} أي لا يفقدونه ومع كثرته ودوام شربه لا يسكرون فإن عدم السكر لنفاد الشراب ليس بعجب، لكن عدم سكرهم مع أنهم مستديمون للشراب عجيب وإن قلنا: {لا يُنزِفُونَ} بمعنى لا ينفد شرابهم كما بينا هناك.
فنقول: أيضًا إن كان لا يصدعون بمعنى لا يصيبهم صداع فالترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن قوله: {لاَّ يُصَدَّعُونَ} لا يكون بيان أمر عجيب إن كان شرابهم قليلًا فقال: {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} مع أنهم لا يفقدون الشراب ولا ينزفون الشراب، وإن كان بمعنى لا ينزفون عنها فالترتيب حسن لأن معناه لا ينزفون عنها بمعنى لا يخرجون عما هم فيه ولا يؤخذ منهم ما أعطوا من الشراب، ثم إذا أفنوها بالشراب يعطون.
{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما وجه الجر، والفاكهة لا يطوف بها الولدان والعطف يقتضي ذلك؟ نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حالتين أحدهما: حالة الشرب والأخرى حال عدمه، فالفاكهة من رءوس الأشجار تؤخذ، كما قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] وقال: {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} [الرحمن: 54] إلى غير ذلك، وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان، فيناولوهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام، كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده عنده وإن كان كل واحد منهما مشاركًا للآخر في القرب منها والوجه الثاني: أن يكون عطفًا في المعنى على جنات النعيم، أي هم المقربون في جنات وفاكهة، ولحم وحور، أي في هذه النعم يتقلبون، والمشهور أنه عطف في اللفظ للمجاورة لا في المعنى، وكيف لا يجوز هذا، وقد جاز تقلد سيفًا ورمحًا.
المسألة الثانية:
هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة؟ قلت: وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة، وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل، ولا يصل إليها علمي القليل، والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة، والجائع مشته والشبعان غير مشته، وإنما هو مختار إن أراد أكل، وإن لم يرد لا يأكل، ولا يقال في الجائع إن أراد أكل لأن أن لا تدخل إلا على المشكوك، إذا علم هذا ثبت أن في الدنيا اللحم عند المشتهي مختار والفاكهة عند غير المشتهى مختارة وحكاية الجنة على ما يفهم في الدنيا فِخص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار، والتحقيق فيه من حيث اللفظ أن الاختيار هو أخذ الخير من أمرين والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أو لا ميل إلى أحدهما، ثم يتفكر ويتروى، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر فالتفكه هو ما يكون عند عدم الحاجة، وأما إن اشتهى واحد فاكهة بعينها فاستحضرها وأكلها فهو ليس بمتفكه وإنما هو دافع حاجة، وأما فواكه الجنة تكون أولًا عند أصحاب الجنة من غير سبق ميل منهم إليها ثم يتفكهون بها على حسب اختيارهم، وأما اللحم فتميل أنفسهم إليه أدنى ميل فيحضر عندهم، وميل النفس إلى المأكول شهوة، ويدل على هذا قوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] وقوله: {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} [الرحامن: 54] وقوله تعالى: {وفاكهة كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32، 33] فهو دليل على أنها دائمة الحضور، وأما اللحم فالمروي أن الطائر يطير فتميل نفس المؤمن إلى لحمه فينزل مشويًا ومقليًا على حسب ما يشتهيه، فالحاصل أن الفاكهة تحضر عندهم فيتخير المؤمن بعد الحضور واللحم يطلبه المؤمن وتميل نفسه إليه أدنى ميل، وذلك لأن الفاكهة تلذ الأعين بحضورها، واللحم لا تلذ الأعين بحضوره، ثم إن في اللفظ لطيفة، وهي أنه تعالى قال: {مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} ولم يقل: مما يختارون مع قرب أحدهما إلى الآخر في المعنى، وهو أن التخير من باب التكلف فكأنهم يأخذون ما يكون في نهاية الكمال، وهذا لا يوجد إلا ممن لا يكون له حاجة ولا اضطرار.
المسألة الثالثة:
ما الحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم؟ نقول: الجواب عنه من وجوه أحدها: العادة في الدنيا التقديم للفواكه في الأكل والجنة وضعت بما علم في الدنيا من الأوصاف وعلى ما علم فيها، ولاسيما عادة أهل الشرب وكأن المقصود بيان حال شرب أهل الجنة وثانيها: الحكمة في الدنيا تقتضي أكل الفاكهة أولًا لأنها ألطف وأسرع انحدارًا وأقل حاجة إلى المكث الطويل في المعدة للهضم، ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها وثالثها: يخرج مما ذكرنا جوابًا خلا عن لفظ التخيير والاشتهاء هو أنه تعالى لما بين أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود، واللحم يشتهي ويحضر عند الاشتهاء دل هذا على عدم الجوع لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم فقال: {وفاكهة} لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها، وهذا الوجه أصح لأن من الفواكه مالا يؤكل إلا بعد الطعام، فلا يصح الأول جوابًا في الكل.
{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)}.
وفيها قراءات الأولى: الرفع وهو المشهور، ويكون عطفًا على ولدان، فإن قيل قال قبله: {حُورٌ مقصورات فِي الخيام} [الرحمن: 72] إشارة إلى كونها مخدرة ومستورة، فكيف يصح قولك: إنه عطف على {ولدان}؟ نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: وهو المشهور أن نقول: هو عطف عليهم في اللفظ لا في المعنى، أو في المعنى على التقدير والمفهوم لأن قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان} [الواقعة: 17] معناه لهم ولدان كما قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} [الطور: 24] فيكون: {وَحُورٌ عِينٌ} بمعنى ولهم حور عين وثانيهما: وهو أن يقال: ليست الحور منحصرات في جنس، بل لأهل الجنة: {حُورٌ مقصورات} في حظائر معظمات ولهن جواري وخوادم، وحور تطوف مع الولدان السقاة فيكون كأنه قال: يطوف عليهم ولدان ونساء الثانية: الجر عطفًا على أكواب وأباريق، فإن قيل: كيف يطاف بهن عليهم؟ نقول: الجواب سبق عند قوله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ} [الواقعة: 21] أو عطفًا على: {جنات} [الواقعة: 12] أي: أولئك المقربون في جنات النعيم وحور وقرئ {حورًا عَيْنًا} بالنصب، ولعل الحاصل على هذه القراءة على غير العطف بمعنى العطف لكن هذا القارئ لابد له من تقدير ناصب فيقول: يؤتون حورًا فيقال: قد رافعًا فقال: ولهم حور عين فلا يلزم الخروج عن موافقة العاطف وقوله تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} فيه مباحث.
الأول: الكاف للتشبيه، والمثل حقيقة فيه، فلو قال: أمثال اللؤلؤ المكنون لم يكن إلى الكاف حاجة، فما وجه الجمع بين كلمتي التشبيه؟ نقول: الجواب المشهور أن كلمتي التشبيه يفيدان التأكيد والزيادة في التشبيه، فإن قيل: ليس كذلك بل لا يفيدان ما يفيد أحدهما لأنك إن قلت مثلًا: هو كاللؤلؤة للمشبه، دون المشبه به في الأمر الذي لأجله التشبيه؟ نقول: التحقيق فيه، هو أن الشيء إذا كان له مثل فهو مثله، فإذا قلت هو مثل القمر لا يكون في المبالغة مثل قولك هو قمر وكذلك قولنا: هو كالأسد، وهو أسد، فإذا قلت: كمثل اللؤلؤ كأنك قلت: مثل اللؤلؤ وقولك: هو اللؤلؤ أبلغ من قولك: هو كاللؤلؤ، وهذا البحث يفيدنا ههنا، ولا يفيدنا في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] لأن النفي في مقابلة الإثبات، ولا يفهم معنى النفي من الكلام مالم يفهم معنى الإثبات الذي يقابله، فنقول قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} في مقابلة قول من يقول: كمثله شيء، فنفى ما أثبته لكن معنى قوله: {كَمِثْلِهِ شَيْء} إذا لم نقل بزيادة الكاف هو أن مثل مثله شيء، وهذا كلام يدل على أن له مثلًا، ثم إن لمثله مثلًا، فإذا قلنا: ليس كذلك كان ردًا عليه، والرد عليه صحيح بقي أن يقال: إن الراد على من يثبت أمورًا لا يكون نافيًا لكل ما أثبته، فإذا قال قائل: زيد عالم جيد، ثم قيل ردًا عليه: ليس زيد عالمًا جيدًا لا يلزم من هذا أن يكون نافيًا لكونه عالمًا، فمن يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} بمعنى ليس مثل مثله شيء لا يلزم أن يكون نافيًا لمثله، بل يحتمل أن يكون نافيًا لمثل المثل، فلا يكون الراد أيضًا موحدًا فيخرج الكلام عن إفادة التوحيد، فنقول: يكون مفيدًا للتوحيد لأنا إذا قلنا: ليس مثل مثله شيء لزم أن لا يكون له مثل لأنه لو كان له مثل لكان هو مثل مثله، وهو شيء بدليل قوله تعالى: